السعادة وقت الشدائد

كيف تكون سعيداً عندما تسوء الأمور؟

في خضم مسارات الحياة المتعرجة، لا مفرّ من الأوقات التي تسوء فيها الأمور، وتختل فيها التوقعات، وتنهار فيها الخطط، وتتوالى الخيبات كأنها أمطارٌ لا تنقطع. يظن البعض أن السعادة مرهونة بالظروف، وأنها لا تطرق أبواب القلوب إلا حين تستقر الأحوال وتصفو السماء من غيوم المشكلات. غير أن أعظم دروس الوجود تؤكد بأن السعادة الحقيقية لا تُولد من رحم النعيم، بل تتشكل في قلب العاصفة، وتُستخرج من باطن الألم، وتُبنى في لحظات الانكسار.

فلسفة السعادة في مواجهة المحن

السعادة ليست حالة عابرة من الابتهاج المؤقت، ولا تُقاس بوفرة المال أو النجاح أو الاستقرار. إنها مهارة داخلية، وقرار واعٍ، وفعل إرادي يقوم على اختيار النظر إلى الحياة من زاوية مختلفة. عندما تسوء الأمور، يبرز مفهوم “السعادة المقاومة” أو “البهجة المضادة للتيار”، وهي تلك القدرة الفريدة على إيجاد المعنى والرضا حتى في أقسى الظروف.

الفلاسفة منذ القدم تحدثوا عن هذا النوع من السعادة، لا باعتبارها ترفاً نفسياً، بل باعتبارها ضرورة وجودية. الرواقيون في الفكر اليوناني مثل “أبكتيتوس” و”سينيكا” رأوا أن السعادة تكمن في السيطرة على الاستجابات لا على الأحداث، أي أن ما يحدث لنا ليس هو ما يحدد سعادتنا، بل الكيفية التي نتفاعل بها مع ما يحدث.

إعادة تعريف الفشل والخيبة

من أولى خطوات الشعور بالسعادة أثناء الأوقات الصعبة هو تغيير التعريفات. الفشل، حين ننظر إليه كفرصة تعلم، يفقد قدرته على تحطيمنا. الخيبة، حين تُرى كمساحة للنمو، تتحول إلى طاقة دفينة تدفعنا إلى الأمام.

علم النفس الإيجابي يدعو إلى “إعادة الهيكلة الإدراكية” وهو أسلوب معرفي يساعد في فهم التحديات بطريقة أكثر عقلانية وواقعية، وتجاوز العقلية السلبية التي ترى كل ما هو سيئ ككارثة. حين نمارس هذا الأسلوب، لا ننكر الألم، لكننا لا ندعه يسيطر على وعينا.

المشاعر ليست أعداءً

العديد من الناس يقعون في فخ الاعتقاد بأن المشاعر السلبية مثل الحزن والقلق واليأس يجب أن تُقمع أو تُنكر. غير أن المشاعر ما هي إلا إشارات بيولوجية تساعد على التكيف مع الواقع. قبول هذه المشاعر، والسماح لها بالمرور دون مقاومة، هو جزء لا يتجزأ من السعادة الحقيقية.

يشير علم الأعصاب إلى أن مقاومة المشاعر السلبية يزيد من حدتها، بينما يسمح قبولها بتقليل حدتها تدريجياً. فالشخص الذي يتقبل أنه حزين، دون أن يغرق في اجترار الأفكار السلبية، يمهد الطريق لتجاوزه بشكل صحي.

السعادة كقرار يومي

حين تسوء الأمور، تتقلص المساحات التي نتحرك فيها، ويضيق الأفق، وتخفت الخيارات. لكن ما يبقى دائماً هو قدرتنا على اختيار موقفنا. السعادة لا تأتي من الخارج، بل من الداخل. إنها انعكاس لما نزرعه في ذواتنا من عادات عقلية وسلوكية وروحية.

بعض هذه العادات تشمل:

• الامتنان: وهو أداة فعالة لتوجيه الانتباه نحو ما هو موجود بدلاً من ما هو مفقود. حين نركز على النعم الصغيرة، نعيد توازن وعينا نحو ما هو إيجابي.

• الروتين الصحي: تنظيم النوم، الغذاء، وممارسة الرياضة تؤثر بشكل مباشر على الهرمونات المسؤولة عن الشعور بالسعادة، مثل السيروتونين والإندورفين.

• مساعدة الآخرين: العطاء، حتى في أصعب الأوقات، يولد شعوراً بالمعنى والانتماء ويخفف من وطأة التوتر الداخلي.

• التأمل والهدوء الذهني: ممارسة التأمل أو اليقظة الذهنية تتيح لنا الانفصال المؤقت عن الضجيج الذهني والمحفزات السلبية المحيطة.

التجارب المؤلمة كأرض خصبة للنمو

أشارت دراسة طويلة أجراها “جامعة هارفارد” حول السعادة أن الأشخاص الذين واجهوا مشكلات وصعوبات في حياتهم ونجحوا في تجاوزها، كانوا أكثر قدرة على التمتع بشعور مستدام بالرضا مقارنة بأولئك الذين عاشوا حياة مستقرة بلا هزات. فالتحديات، رغم قسوتها، تعمل على تقوية الجهاز النفسي، وتنمية مهارات التكيف، وإعادة ترتيب الأولويات بطريقة أكثر عمقاً ونضجاً.

تحويل المعاناة إلى رسالة

من أنبل وسائل مقاومة الانهيار النفسي أثناء الشدائد أن يتحول الإنسان إلى حامل لرسالة نابعة من ألمه. القصص الملهمة لأشخاص فقدوا أحباءهم أو واجهوا أمراضاً مزمنة أو عاشوا حروباً أو لجوءاً، وتحوّلوا لاحقاً إلى دعاة سلام، أو مدربين تنمية بشرية، أو كتّاب ومبدعين، تعكس كيف يمكن للمعاناة أن تكون محرّكاً لصناعة الأمل ونشر النور.

أثر الإيمان والمعنى في تجاوز الأزمات

تشير النظريات النفسية والروحية إلى أهمية “المعنى الوجودي” في تجاوز الأوقات الصعبة. عالم النفس النمساوي “فيكتور فرانكل”، الذي عاش تجربة السجون النازية، كتب عن “الإنسان الباحث عن المعنى”، مؤكدًا أن من يجد سبباً للحياة يمكنه أن يتحمّل أي كيف. المعاناة، حين تُربط بهدف أو قيمة عليا، تفقد قدرتها على التدمير، وتتحول إلى مَعبر نحو الحكمة والنضج.

الدين كذلك، في مختلف التقاليد، يمنح الإنسان مساحة روحية تعيد التوازن للنفس، وتمنحه أدوات لمواجهة الشدائد، مثل الصبر، والتوكل، والرجاء. هذه القيم ليست مجرد مفاهيم روحية، بل أثبتت الدراسات الحديثة في علم النفس الديني أن لها أثرًا عميقًا على تخفيض القلق والاكتئاب.

قوة المجتمع والدعم النفسي

الوحدة من أكثر العوامل التي تفاقم المشاعر السلبية. في المقابل، تُظهر الدراسات أن الدعم الاجتماعي من الأصدقاء، العائلة، أو حتى المجموعات العلاجية، يخفف من التوتر، ويقلل من احتمالية الإصابة بالاضطرابات النفسية.

الحديث عن المشكلة، حتى وإن بدا بسيطاً، يُخرج الطاقة السلبية من داخل النفس، ويعيد الأمور إلى سياقها الواقعي، ويتيح للآخرين تقديم الدعم والمساندة. وفي بعض الحالات، قد يكون اللجوء إلى مختص نفسي هو الخطوة الأكثر نضجاً نحو التعافي.

الجدول: مقارنة بين العادات المؤدية للتعاسة وتلك المساعدة على السعادة

استمرارية السعادة رغم العواصف

أن تكون سعيداً عندما تسوء الأمور لا يعني أنك لا تحزن، أو لا تتألم، أو لا تشتاق إلى ما كان. بل يعني أنك تدرك أن الألم لا يساوي الهزيمة، وأن المعاناة لا تمنعك من أن تبتسم، وأن الظلام لا يمنعك من أن تضيء شمعة صغيرة.

السعادة في الأوقات العصيبة ليست وهماً، بل فنّ يمكن تعلمه وممارسته، وهي موقف داخلي ينبع من الشجاعة والمرونة واليقين بأن كل محنة تحمل في طياتها فرصة لإعادة اكتشاف الذات، وإعادة ترتيب الحياة بما يتناسب مع ما هو أعمق وأصدق وأكثر واقعية.

المصادر:

1. Viktor E. Frankl, Man’s Search for Meaning, Beacon Press, 2006.

2. Martin Seligman, Flourish: A Visionary New Understanding of Happiness and Well-being, Free Press, 2011.